دماء الشعوب مصونة
د. عطية عدلانمدير مركز «محكمات» للبحوث والدراسات – اسطنبول
على الرغم من استمرار الطغيان في سفك دماء الشعوب، وعلى الرغم مِن مُضِيِّه في غَيِّه وطغيانه غيرَ عابئٍ ولا مكترث؛ فلا يملُّ الواعون المصلحون من تكرار النذير، وإزجاء التحذير تلو التحذير: ألا إنّ دماء الشعوب خط أحمر، وإذا كان المصلح من هؤلاء معدودًا من الفقهاء لم يتردد في إصدار هذا الحكم الصارم وتكرار: ألا إنّ دماء الشعوب معصومة، كيف لا؟! أليست القاعدة المستقرة شرعًا وعقلًا تعلن أنّ “الإنسان بنيان الربّ”؟ فمن ذا الذي يعطي نفسه الحقّ في هدم بنيان الربّ؟!
البعد الأخلاقيّ العريق
ولقد استقر في أخلاق الحرب وأحكامها من قديم الزمان -وشريعة الإسلام في هذا أسبق وأعمق- أنّ الشعوب لا يصح استهدافها بالحروب؛ لذلك لم يُشْرَع الجهاد في الإسلام لاستهداف الشعوب، ولو بحملها قَسْرًا على الدين الحق، ولم يترجح لدى جمهور الفقهاء إلا أنّ مُوجِب القتل هو انضمام الحرابة إلى الكفر، وليس الكفر عندهم سببًا مُبيحًا للقتل بمفرده، ومن اشتبه عليه الأمر فما عليه إلا أن يتدبر آية جاء ترتيبها بعد “آية السيف”، قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} (التوبة: 6).
فإذا كان الجهاد الإسلاميُّ الذي يهدف -في الأصل- إلى إخراج الناس من الظلمات إلى النور لا يحل له استهداف الشعوب فضلا عن استباحتهم؛ فكيف بحروب لا ناقة للخلق فيها ولا جمل، وتحركها الأهواء والأطماع، وتديرها أوامر الطغاة للغوغاء الرعاع؟!
العمق التشريعيّ لعصمة الدماء
هذا الخط الأحمر رسمته السماء على صفحة الغبراء، قبل أن يَمدَّهُ في أقطارها العلماءُ والحكماء، فإنّ ربّ العزّة تبارك وتعالى وضع هذه القاعدة العامّة؛ تعقيبًا على أول حادثة قتل تقع في المحيط الإنسانيّ: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} (المائدة: 32)؛ لأنّ من قتل نفسًا واحدة فقد انتهك حرمة النفس الإنسانية المصونة بأصلها، ومن أحيا نفسًا واحدة فقد عظّم هذه الحرمة وصانها.
هذا على وجه العموم، أمّا على وجه الخصوص، فإنّ حرمة الدم تأخذ مع إيمان الإنسان بعدًا أعمق؛ إنَّه البعد الذي يضيفه إيمان النفس الإنسانية بربها وعبوديتها لباريها، فكيف تُستباحُ نفسٌ آمنت بالله وتوجهت إليه بالعبادة؟! إنّه لذنب يقترب في بشاعته من الكفر بخالق هذه النفس وهاديها إليه؛ لذلك جاء وعيده على هذا النحو المزلزل: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (النساء: 93)، ألا يدل اجتماع الخلود في النار -ولو بتأويل الخلود بالمكث الطويل- مع الغضب واللعن والعذاب العظيم على اقتراب القاتل من الكفر بالله رب العالمين؟ أليس القاتل بموجب هذه الآية -ولاسيما إذا ارتكب جريمة القتل في سياق الحرابة للإسلام أو لحقوق الإنسان التي اشتملت عليها شريعة الإسلام- أليس يحوم حول حِمَى الكفر ويوشك أن يرتع فيه؟
لا يُواجَه بالعسف مَن يطالب بحقه
إنّ الحرية حقٌّ فطريّ إنسانيّ شرعيّ، فمن قام مُطالبًا بالحرية فلا عسف في مواجهته؛ لا عسف ولا قمع ولا إرهاب ولا قتل؛ لأنّه معصوم الدم، ولم يرتكب ما يوجب نزع هذه العصمة التي وُلِد بها وفُطِر عليها، فيا أيها الطغاة: متى استعبدتم الناس وقد ولدتههم أمهاتهم أحرارًا؟! ويا جُندَ الطغاة: مَنْ أباح لكم سفك دماء الأبرياء ونزع حقهم في الحياة؟! ألا تعلمون أنّ المسلم يجوز له -باتفاق- النطق بكلمة الكفر تحت الإكراه المُلجئ، بينما لا يجوز له -باتفاق أيضًا- قتل نفس مؤمنة تحت الإكراه ذاته؟ ألم يبلغكم في كتاب الله تعالى أنّ الذين تنفذون أوامرهم سيتخلون عنكم يومَ يقومُ الناسُ لرب العالمين؟ ألم يَمُرّ عليكم في القرآن: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (البقرة: 166-167)! كلّا والله، لا يُواجَه بالعسف ولا بالقتل من قام للمطالبة بحريته أو بحقه في الحياة الكريمة؛ فإنّ الدول ما قامت إلا من أجل حماية هذه الحقوق ورعايتها.
المُحرِّضون على القتل قَتَلَةٌ مجرمون
وإنّنا -نحن الشعوب- إذْ نحذر الطغاة من استباحة الأنفس والأعراض، ومن سفك الدماء وانتهاك الحقوق ومصادرة الحريات؛ نخصّ بالتحذير والنذير أبواقَ الطغاة، من علماء السلطان و”دجاجلة الميديا والتوك شو” وكل من باعوا أقلامَهم وألسنَتَهم -ومعها أنفسهم- للظلم والطغيان، نحذرهم وننذرهم ونخوّفهم بالله، الذي حرّم الظلم على نفسه وجعله بين عباده مُحرَّمًا، ونحذرهم كذلك من غضبة الشعوب التي لا تنسى من أساء إليها ولا تهدر حقها في القصاص الذي لا يسقط بالتقادم، فهل بَلَغَ هؤلاء أنّ أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه قال: “لو تمالأ عليه أهلُ صنعاءَ لقتلتُهم جميعًا”؟!
وقد قال جمهور فقهاء الأمصار: تُقْتَلُ الجماعة بالواحد، منهم مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد، والثوري والأوزاعي وإسحاق وأبو ثور وغيرهم، وهؤلاء جميعًا لم يتصوروا الممالأة إلا بوقوع القتل من البعض بمعاونة البعض الآخر، فليست مسؤولية القتل محصورة في مَن وَلِيَ القتل وحده دون الآمر به والمُحرّض عليه والمُعين والمُمد بالسلاح، وقد وردت عبارات في كتب المذاهب الأربعة -يضيق المقام عن سردها- تدل على ذلك دلالة صريحة، وأسوق هنا مثالًا واحدًا عن ابن رشد في “البيان والتحصيل” (11/ 240) يقول مُعلّلًا ومُبّينًا: “لأن القوم إذا اجتمعوا في الغصْب أو السرقة أو الحرابة، فكل واحد منهم ضامن لجميع ما أخذوه، كأن بعضَهم قَوِيَ ببعض؛ فَهُمْ كالقوم يجتمعون على قتل الرجل، فَيُقْتَلُ جميعُهم به، وإنْ وَلِيَ القتلَ أحدُهم”.
وفي الختام، نسأل الله أن يعمَّ السلام والوئام ديار الإسلام، وأن يفيض منها على سائر الأنام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق