الخميس، 3 نوفمبر 2022

نبذة يسيرة في ذَوق الصلاة (2)

 نبذة يسيرة في ذَوق الصلاة (2)


من ذاق طعم الصلاة علم أنه لا يقوم غير التكبير والفاتحة مقامهما، كما لا يقوم غير القيام والركوع والسجود مقامها، فلكل عبودية من عبودية الصلاة سر وتأثير وعبودية لا تحصل من غيرها، ثم لكل آية من آيات الفاتحة عبودية وذوق ووجد يخصها.

القراءة

فإذا أخذ في قراءة القرآن فقد قام في مقام مخاطبة ربه ومناجاته، فليحذر كل الحذر من التعرض لمقته وسخطه أن يناجيه ويخاطبه وهو معرض عنه ملتفت إلى غيره، فإنه يستدعي بذلك مقته ويكون بمنزلة رجل قربه ملك من ملوك الدنيا فأقامه بين يديه، فجعل يخاطبه الملك وقد ولاه قفاه أو التفت عنه بوجهه يمنة ويسرة، فما الظن بمقت الملك لهذا، فما الظن بالملك الحق المبين الذي هو رب العالمين وقيوم السماوات والأرض.

الحمد لله

فعند قوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) تجد تحت هذه الكلمة إثبات كل كمال للرب تعالى فعلاً ووصفًا واسمًا، وتنزيهه عن كل سوء وعيب فعلاً ووصفًا واسمًا، فهو محمود في أفعاله وأوصافه وأسمائه، منزه عن العيوب والنقائص في أفعاله وأوصافه وأسمائه، فأفعاله كلها حكمة ورحمة ومصلحة وعدل لا تخرج عن ذلك، وأوصافه كلها أوصاف كمال ونعوت جلال، وأسماؤه كلها حسنى، وحمده قد ملأ الدنيا والآخرة والسماوات والأرض وما بينهما وما فيهما فالكون كله ناطق بحمده، والخلق والأمر صادر عن حمده وقائم بحمده ووجد بحمده؛ فحمده هو سبب وجود كل موجود، وهو غاية كل موجود، وكل موجود شاهد بحمده، وإرساله رسوله بحمده، وإنزاله كتبه بحمده، والجنة عمرت بأهلها بحمده، والنار عمرت بأهلها بحمده، وما أطيع إلا بحمده وما عُصي إلا بحمده، ولا تسقط ورقة إلا بحمده، ولا يحرك في الكون ذرة إلا بحمده، وهو المحمود لذاته، وإن لم يحمده العباد، كما أنه هو الواحد الأحد ولو لم يوحده العباد، والإله الحق وإن لم يؤلهوه، وهو سبحانه الذي حمد نفسه على لسان القائل: الحمد لله رب العالمين، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تعالى قال على لسان نبيه: سمع الله لمن حمده»1.

فهو الحامد لنفسه في الحقيقة على لسان عبده، فإنه الذي أجرى الحمد على لسانه وقلبه وإجراؤه بحمده.

فله الحمد كله، وله الملك كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، فهذه المعرفة من عبودية الحمد.

ومن عبوديته أيضًا أن يعلم أن حمده لربه سبحانه نعمة منه عليه، يستحق عليها الحمد فإذا حمده على هذه النعمة استوجب عليه حمدًا آخر على نعمة حمده وهلم جرا.

فالعبد ولو استنفد أنفاسه كلها في حمده على نعمة من نعمه كان ما يجب له من الحمد ويستحق فوق ذلك وأضعاف، ولا يُحصي أحد البتة ثناء عليه بمحامده.

ومن عبودية العبد شهود العبد لعجزه عن الحمد وأن ما قام به منه، فالرب سبحانه هو المحمود عليه إذ هو مجريه على لسانه وقلبه.

ومن عبوديته تسليط الحمد على تفاصيل أحوال العبد كلها ظاهرة وباطنة على ما يحب العبد وما يكرهه، فهو سبحانه المحمود على ذلك كله في الحقيقة وإن غاب عن شهود العبد.

رب العالمين

ثم لقوله: (رَبِّ الْعَالَمِينَ) من العبودية شهود تفرده سبحانه بالربوبية، وأنه كما أنه رب العالمين وخالقهم ورازقهم ومدبر أمورهم وموجدهم ومفنيهم فهو وحده إلههم ومعبودهم وملجأهم ومفزعهم عند النوائب فلا رب غيره، ولا إله سواه.

الرحمن الرحيم

ثم لقوله: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) عبودية تخصها، وهي شهود عموم رحمته وسعها لكل شيء وأخذ كل موجود بنصيبه منها، ولا سيما الرحمة الخاصة التي أقامت عبده بين يديه في خدمته يناجيه بكلامه ويتملقه ويسترحمه ويسأله هدايته ورحمته وإتمام نعمته عليه، فهذا من رحمته بعبده، فرحمته وسعت كل شيء، كما أن حمده وسع كل شيء.

مالك يوم الدين

ثم يُعطي قوله: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) عبوديتها ويتأمل تضمنها لإثبات المعاد، وتفرد الرب فيه بالحكم بين خلقه، وأنه يوم يدين فيه العباد بأعمالهم في الخير والشر وذلك من تفاصيل حمده، وموجبه.

ولما كان قوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) إخبارًا عن حمده تعالى قال الله: «حمدني عبدي» ولما كان قوله: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) إعادة وتكريرًا لأوصاف كماله قال: «أثنى علي عبدي» فإن الثناء إنما يكون بتكرار المحامد وتعداد أوصاف المحمود، ولما وصفه سبحانه بتفرده بـ (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) وهو الملك الحق المتضمن لظهور عدله وكبريائه وعظمته ووحدانيته وصدق رسله، سمى هذا الثناء مجدًا فقال: «مجدني عبدي» فإن التمجيد هو الثناء بصفات العظمة والجلال.

إياك نعبد وإياك نستعين

فإذا قال: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) انتظر جواب ربه له: «هذا بيني وبين عبدي؛ ولعبدي ما سأل» وتأمل عبودية هاتين الكلمتين وحقوقهما ومَيِّزَ الكلمة التي لله والكلمة التي للعبد، وَفَقِهَ سرَّ كون إحداهما لله والأخرى للعبد، وميز بين التوحيد الذي تقتضيه كلمة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) والتوحيد الذي تقتضيه كلمة (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وَفَقِهَ سرَّ كون هاتين الكلمتين في وسط السورة بين نوعي الثناء قبلهما والدعاء بعدهما، وَفَقِهَ تقديم: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) على (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وتقديم المعمول على الفعل مع الإتيان به مؤخرًا، أوجز وأشد اختصارًا، وسر إعادة الضمير مرة بعد مرة، وعلم ما دفع كل واحدة من الكلمتين من الآفة المنافية للعبودية، وكيف تدخله الكلمتان في صريح العبودية، وَعَلِمَ كيف يدور القرآن من أوله إلى آخره على هاتين الكلمتين بل كيف يدور عليهما الخلق والأمر والثواب والعقاب والدنيا والآخرة، وكيف تضمنتا لأجلَّ الغايات وأكمل الوسائل، وكيف جيء بهما بضمير الخطاب والحضور دون ضمير الغائب.

اهدنا الصراط المستقيم

ثم تأمل ضرورته وفاقته إلى قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) الذي مضمونه:

1 – معرفة الحق.

2 – وقصده وإرادته.

3 – والعمل به.

4 – والثبات عليه.

5 – والدعوة إليه والصبر على أذى المدعو.

فباستكمال هذه المراتب الخمس تستكمل الهداية وما نقص منها نقص من هدايته.

أمور الهداية

ولما كان العبد مفتقرًا إلى هذه الهداية في ظاهره وباطنه في جميع ما يأتيه ويذره من:

1 – أمور قد فعلها على غير الهداية علمًا، وعملاً وإرادة فهو محتاج إلى التوبة منها وتوبته منها هي الهداية.

2 – وأمور قد هدي إلى أصلها دون تفصيلها، فهو محتاج إلى هداية تفاصيلها.

3 – وأمور قد هدي إليها من وجه دون وجه فهو محتاج إلى تمام الهداية فيها؛ لتتم له الهداية ويزاد هدى إلى هداه.

4 – وأمور يحتاج فيها إلى أن يحصل له من الهداية في مستقبلها مثلما حصل له في ماضيها.

5 – وأمور يعتقد فيها بخلاف ما هي عليه، فهو محتاج إلى هداية تنسخ من قلبه ذلك الاعتقاد، وتثبت فيه ضده.

6 – وأمور من الهداية هو قادر عليها، ولكن لم يخلق له إرادة فعلها فهو محتاج في تمام الهداية إلى خلق إرادة يفعلها بها.

7 – وأمور منها هو غير قادر على فعلها مع كونه مريدًا فهو محتاج في هدايته إلى إقداره عليها.

8 – وأمور منها هو غير قادر عليها ولا مريد لها فهو محتاج إلى خلق القدرة والإرادة له لتتم له الهداية.

9 – وأمور هو قائم بها على وجه الهداية اعتقادًا وإرادة وعملاً فهو محتاج إلى الثبات عليها واستدامتها.

كانت2 حاجته إلى سؤال الهداية أعظم الحاجات وفاقته إليها أشد الفاقات، فرض عليه الرب الرحيم هذا السؤال كل يوم وليلة في أفضل أحواله، وهي الصلوات الخمس مرات متعددة، لشدة ضرورته وفاقته إلى هذا المطلوب.

الناس والهداية

ثم بَيَّن أن سبيل أهل هذه الهداية مغاير لسبيل أهل الغضب وأهل الضلال، فانقسم الخلق إذًا ثلاثة أقسام بالنسبة إلى هذه الهداية:

1 – مُنْعَمٌ عليه بحصولها، واستمرار حظه من النعم بحسب حظه من تفاصيلها وأقسامها.

2 – وضال لم يُعْطَ هذه الهداية ولم يوفق لها.

3 – ومغضوبٌ عليه عرفها ولم يوفق للعمل بموجبها.

فالأول: المُنعم عليه قام بالهدى ودين الحق علمًا، عملاً والضال منسلخ عنه علمًا وعملاً والمغضوب عليه عارف به علمًا منسلخ منه عملاً.

مشروعية التأمين

ثم شرع له التأمين عند هذا الدعاء تفاؤلاً بإجابته وحصوله وطابعًا عليه وتحقيقًا له، ولهذا اشتد حسد اليهود للمسلمين عليه حين سمعوهم يجهرون به في صلاتهم.

الركوع

ثم شرع له رفع اليدين عند الركوع؛ تعظيمًا لأمر الله وزينة للصلاة وعبودية خاصة لليدين كعبودية باقي الجوارح، واتباعًا لسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فهو حلية الصلاة، وزينتها، وتعظيمًا لشعائرها.

ثم شرع له التكبير الذي هو في انتقالات الصلاة من ركن إلى ركن كالتلبية في انتقالات الحاج من مشعر إلى مشعر، فهو شعار الصلاة كما أن التلبية شعار الحج؛ ليعلم العبد أن سر الصلاة هو تعظيم الرب تعالى وتكبيره بعبادته وحده.

ثم شرع له بأن يخضع للمعبود سبحانه بالركوع خضوعًا لعظمته واستكانة لهيبته وتذللا لعزته، فثنى العبد له صلبه ووضع له قامته ونكس له رأسه وحنى له ظهره معظمًا له ناطقًا بتسبيحه المقترن بتعظيمه، فاجتمع له خضوع القلب وخضوع الجوارح، وخضوع القول، على أتم الأحوال وجمع له في هذا الذكر بين الخضوع والتعظيم لربه والتنزيه له عن خضوع العبيد وأن الخضوع وصف العبد والعظمة وصف الرب.

وتمام عبودية الركوع أن يتصاغر العبد ويتضاءل بحيث يمحو تصاغره كل تعظيم منه لنفسه ويثبت مكانه تعظيمه لربه وكلما استولى على قلبه تعظيم الرب ازداد تصاغره هو عند نفسه، فالركوع للقلب بالذات والقصد وللجوارح بالتبع والتكملة.

الاعتدال من الركوع

ثم شرع له أن يحمد ربه ويثني عليه بآلائه عند اعتداله وانتصابه ورجوعه إلى أحسن هيأته منتصب القامة معتدلها، فيحمد ربه ويثني عليه بأن وفقه لذلك الخضوع، ثم نقله منه إلى مقام الاعتدال والاستواء بين يديه، واقفًا في خدمته كما كان في حال القراءة.

ولذلك الاعتدال ذوق خاص وحال يحصل للقلب سوى ذوق الركوع وحاله، وهو ركن مقصود لذاته كَرُكْن الركوع والسجود سواء؛ ولهذا كان رسول الله يطيله كما يطيل الركوع والسجود ويكثر فيه من الثناء والحمد والتمجيد كما ذكرناه في هديه3 – صلى الله عليه وسلم – وكان في قيام الليل يكثر فيه من قول: «لربي الحمد لربي الحمد»4 يكررها.

السجدة الأولى

ثم شرع له أن يكبر ويخر ساجدًا، ويعطي في سجوده كل عضو من أعضائه حظه من العبودية فيضع ناصيته بالأرض بين يدي ربه مسندة راغمًا له أنفه خاضعًا له قلبه، ويضع أشرف ما فيه وهو وجهه بالأرض ولا سيما على التراب معفرًا له بين يدي سيده راغمًا له أنفه مخضعًا له قلبه وجوارحه، متذللا لعظمته، خاضعًا لعزته مستكينًا بين يديه، أذل شيء وأكسره لربه تعالى مسبحًا له بعلوه في أعظم سفوله، قد صارت أعاليه ملوية لأسافله ذلاً وخضوعًا وانكسارًا وقد طابق قلبه حال جسمه، فسجد القلب كما سجد الوجه، وقد سجد معه أنفه ويداه وركبتاه ورجلاه.

وشرع له أن (يقل)5 فخذيه عن ساقيه، وبطنه عن فخذيه، وعضديه عن جنبيه، ليأخذ كل جزء منه حظه من الخضوع ولا يحمل بعضه بعضًا.

فأحرى به في هذه الحال أن يكون أقرب إلى ربه منه في غيرها من الأحوال كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم – «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد»6.

سجود القلب

ولما كان سجود القلب خضوعه التام لربه، أمكنه استدامة هذا السجود إلى يوم لقائه.

كما قيل لبعض السلف هل يسجد القلب؟ قال: (أي والله سجدة لا يرفع رأسه منها حتى يلقى الله)7.

الاعتدال من السجود

ثم شرع له أن يرفع رأسه ويعتدل جالسًا، ولما كان هذا الاعتدال محفوفًا بسجودين: سجود قبله وسجود بعده، فينتقل من السجود إليه ثم منه إلى السجود كان له شأن.

فكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يطيله بقدر السجود يتضرع فيه إلى ربه، ويستغفره ويسأله رحمته وهدايته ورزقه وعافيته8 وله ذوق خاص وحال للقلب غير ذوق السجود وحاله.

الجلوس بين السجدتين وذوقه

فالعبد في هذا القعود قد تمثل جاثيًا بين يدي ربه، ملقيًا نفسه بين يديه، معتذرًا إليه مما جناه، راغبًا إليه أن يغفر له ويرحمه، مستعديًا على نفسه الأمارة بالسوء.

وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – يكرر الاستغفار9 في هذه القعدة، ويكثر رغبته إلى الله فيها.

فمثل نفسك بمنزلة غريم عليه حق الله وأنت كفيل به، والغريم مماطل مخادع وأنت مطلوب بالكفارة والغريم مطلوب بالحق.

فأنت تستعدي عليه، حتى تستخرج ما عليه من الحق؛ لتتخلص من المطالبة.

والقلب شريك النفس في الخير والشر والثواب والعقاب والحمد والذم، والنفس من شأنها الإباق والخروج من رق العبودية، وتضييع حقوق الله التي قبلها، والقلب شريكها إن قوي سلطانها وأسيرها وهي شريكته وأسيرته إن قوي سلطانه.

جماع الخير

فشرع للعبد إذا رفع رأسه من السجود، أن يجثو بين يدي الله مستعديًا على نفسه، معتذرًا إلى ربه مما كان منها، راغبًا إليه أن يرحمه ويغفر له ويهديه ويرزقه ويعافيه وهذه الخمس هي جماع خير الدنيا والآخرة.

فإن العبد محتاج بل مضطر إلى تحصيل مصالحه في الدنيا وفي الآخرة، ودفع المضار عنه في الدنيا والآخرة، وقد تضمنها هذا الدعاء، فإن الرزق يجلب له مصالح دنياه، والعافية تدفع مضارها، والهداية تجلب له مصالح أخراه، والمغفرة تدفع عنه مضارها، والرحمة تجمع ذلك كله.

السجدة الثانية

وشرع له أن يعود ساجدًا كما كان ولا يكتفي منه بسجدة واحدة في الركعة كما اكتفى منه بركوع واحد لفضل السجود وشرفه وموقعه من الله حتى أنه أقرب ما يكون إلى عبده وهو ساجد، وهو أدخل في العبودية، وأعرق فيها من غيره؛ ولهذا جعل خاتمة الركعة وما قبله كالمقدمة بين يديه، فمحله من الصلاة محل طواف الزيارة، وما قبله من التعريف وتوابعه مقدمات بين يديه وكما أنه أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فكذلك أقرب ما يكون منه في المناسك وهو طائف.

ولهذا قال بعض الصحابة لمن كلمه في طوافه بأمر من الدنيا: “أتقول هذا ونحن نتراءى لله في طوافنا”10.

ولهذا والله أعلم جعل الركوع قبل السجود تدريجًا وانتقالا من الشيء إلى ما هو أعلى منه.

جلوس التشهد

فلما قضى صلاته وأكملها ولم يبق إلا الانصراف منها شرع الجلوس بين يدي ربه مثنيًا عليه بأفضل التحيات التي لا تصلح إلا له ولا تليق بغيره.

التحيات لله

ولما كان عادة الملوك أن يحيوا بأنواع التحيات من الأفعال والأقوال المتضمنة للخضوع والثناء وطلب البقاء ودوام الملك، فمنهم من يحيى بالسجود ومنهم من يحيى بالثناء عليه، ومنهم من يحيى بطلب البقاء والدوام له، ومنهم من يجمع له ذلك كله، فكان الملك الحق سبحانه أولى بالتحيات كلها من جميع خلقه، وهي له بالحقيقة، ولهذا فسرت التحيات بالملك، وفسرت بالبقاء والدوام وحقيقتها ما ذكرته وهي تحيات الملك، فالملك الحق المبين أولى بها.

فكل تحية يحيى بها ملك من سجود أو ثناء أو بقاء ودوام فهي لله عز وجل، ولهذا أتى بها مجموعة معرفة باللام أداة العموم وهي جمع تحية، وهي تفعيلة من الحياة، وأصلها تحيية بوزن تكرمة ثم أدغم أحد المثلين في الآخر فصارت تحية، وإذا كان أصلها من الحياة فالمطلوب لمن يُحيَّى بها دوام الحياة.

وكانوا يقولون لملوكهم: لك الحياة الباقية ولك الحياة الدائمة، وبعضهم يقول: عشرة آلاف سنة، واشتق منها أدام الله أيامك، وأطال الله بقاءك، نحو ذلك مما يراد به دوام الحياة والملك وذلك لا ينبغي إلا للحي الذي لا يموت وللملك الذي كل ملك زائل غير ملكه.

والصلوات

ثم عطف عليها الصلوات بلفظ الجمع والتعريف ليشمل كل ما أطلق عليه لفظ الصلاة خصوصًا وعمومًا فكلها لله لا تنبغي إلا له فالتحيات له ملكًا، والصلوات له عبودية واستحقاقًا فالتحيات لا تكون إلا له والصلوات لا تنبغي إلا له.

والطيبات

ثم عطف عليها الطيبات كذلك، وهذا يتناول أمرين: الوصف والملك.

فأما الوصف فإنه سبحانه طيب، وكلامه طيب، وفعله كله طيب، ولا يصدر منه إلا الطيب، ولا يضاف إليه إلا الطيب، ولا يصعد إليه إلا الطيب فالطيبات له وصفًا وفعلاً وقولا ونسبة، وكل طيب مضاف إليه، وكل مضاف إليه طيب، فله الكلمات الطيبة والأفعال الطيبات، وكل مضاف إليه كبيته وعبده وروحه وناقته وجنته فهي طيبات.

وأيضًا فمعاني الكلمات الطيبات لله وحده فإن الكلمات الطيبات تتضمن تسبيحه وتحميده وتكبيره وتمجيده والثناء عليه بآلائه وأوصافه فهذه الكلمات الطيبات التي يثنى عليه بها ومعانيها له وحده لا يشركه فيها غيره، كسبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك11 ونحو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر 12 ونحو سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم13.

فكل طيب فله وعنده ومنه وإليه، وهو طيب لا يقبل إلا طيبًا، وهو إله الطيبين، وجيرانه في دار كرامته هم الطيبون.

فتأمل أطيب الكلمات بعد القرآن كيف لا تنبغي إلا لله، وهي «سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله».

فإن «سبحان الله» تتضمن تنزيهه عن كل نقص وعيب وسوء، وعن خصائص المخلوقين وشبههم.

و «الحمد لله» تتضمن إثبات كل كمال له قولاً وفعلاً ووصفًا على أتم الوجوه وأكملها أزلًا وأبدًا.

و «لا إله إلا الله» تتضمن انفراده بالإلهية، وأن كل معبود سواه فباطل، وأنه وحده الإله الحق وأنه من تأله غيره فهو بمنزلة من اتخذ بيتًا من بيوت العنكبوت يأوي إليه ويسكنه.

و «الله أكبر» تتضمن أنه أكبر من كل شيء وأجل وأعظم وأعز وأقوى وأقدر وأعلم وأحكم، فهذه الكلمات الطيبات لا تصلح هي ومعانيها إلا لله وحده.

السلام على النبي – صلى الله عليه وسلم – وعلى عباد الله الصالحين

ثم شرع له أن يسلم على عباد الله الذين اصطفى بعد تقدم الحمد والثناء عليه بما هو أهله فطابق ذلك قوله تعالى: (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) [النمل: 59] وكأنه امتثال له.

وأيضًا فإن هذه تحية المخلوق فشرعت بعد تحية الخالق وقدم في هذه التحية أولى الخلق بها، وهو النبي – صلى الله عليه وسلم – الذي نالت أمته على يده كل خير، وعلى نفسه بعده، وعلى سائر عباد الله الصالحين وأخصهم بهذه التحية الأنبياء، ثم أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، مع عمومها لكل عبد لله صالح في الأرض والسماء.

شهادة الحق

ثم شرع له بعد ذكر هذه التحية والتسليم على من يستحق التسليم خصوصًا وعمومًا أن يشهد شهادة الحق التي بنيت عليها الصلاة، وهي حق من حقوقها ولا تنفعه إلا بقرينتها وهي شهادة لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالرسالة وختمت بها الصلاة، كما قال عبد الله بن مسعود (فإذا قلت ذلك فقد قضيت صلاتك فإن شئت أن تقوم فقم وإن شئت أن تقعد فاقعد14.

وهذا إما أن يحمل على قضاء الصلاة حقيقة كما يقوله الكوفيون، أو على مقاربة انقضائها ومشارفته كما يقوله أهل الحجاز وغيرهم.

وعلى التقديرين فجعلت شهادة الحق خاتمة الصلاة كما شرع أن تكون خاتمة الحياة، فمن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة15. وكذلك شرع للمتوضئ أن يختم وضوءه بالشهادتين16.

الهوامش

(1) إشارة إلى حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه مسلم (404).

(2) جواب قوله: «ولما كان العبد مفتقرًا ..».

(3) انظر زاد المعاد (1/ 55).

(4) جزء من حديث رواه حذيفة وقد أخرجه أبو داود في سننه كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده (1/ 231) والنسائي كتاب الافتتاح، باب: ما يقول في قيامه ذلك (2/ 199) وأحمد في مسنده (5/ 398).

(5) يقل: يرفع النهاية لابن الأثير (4/ 104).

(6) هذا الحديث رواه أبو هريرة، وقد أخرجه مسلم كتاب الصلاة باب ما يقال في الركوع والسجود (1/ 350).

(7) القائل: سهل بن عبد الله التستري كما في مجموع الفتاوى لابن تيمية (23/ 138).

(8) إشارة إلى حديث ابن عباس وقد أخرجه أبو داود كتاب الصلاة باب الدعاء بين السجدتين (1/ 224) أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يقول بين السجدتين: «اللهم اغفر لي وارحمني وعافني واهدني وارزقني».

(9) إشارة إلى حديث حذيفة أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يقول بين السجدتين: «رب اغفر لي رب اغفر لي» أخرجه ابن ماجه كتاب إقامة الصلاة باب ما يقول بين السجدتين (1/ 288) والنسائي كتاب الافتتاح باب ما يقول في قيامه ذلك (2/ 199).

(10) قائل هذا القول عبد الله بن عمر الطبقات الكبرى لابن سعد (4/ 167).

(11) إشارة إلى حديث أن عمر بن الخطاب كان يجهر بهؤلاء الكلمات يقول: «سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك» رواه مسلم كتاب الصلاة باب حجة من قال لا تجهر بالبسملة (1/ 299).

(12) إشارة إلى حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس» رواه مسلم كتاب الذكر والدعاء باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء (4/ 2072).

(13) إشارة إلى حديث أبي هريرة أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم» رواه البخاري كتاب الدعاء باب فضل التسبيح (8/ 107).

(14) رواه أبو داود وكتاب الصلاة باب التشهد (1/ 254) والدارقطني كتاب الصلاة، باب صفة التشهد (1/ 353).

(15) إشارة إلى حديث معاذ بن جبل قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – «من كا ن آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة» وقد أخرجه أبو داود كتاب الجنائز باب في الثقلين (3/ 190).

(16) إشارة إلى حديث عقبة بن عامر الجهني أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «من توضأ فقال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء» رواه مسلم كتاب الطهارة باب الذكر المستحب عقب الوضوء (1/ 210).

المصدر

كتاب: “ذوق الصلاة عند ابن القيم – رحمه الله –” عادل بن عبد الشكور بن عباس الزرقي ص23-45.

اقرأ أيضا

نبذة يسيرة في ذَوق الصلاة (1)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق