طوفان غزة: حرب الإنسان ضد الحيوان
نور الدين العلوي
كلما لمحنا كوة انفراج في غزة خرج العدو يهدد باستمرار العدوان منذرا بالخراب. ونحن الذين لا نملك إلا الشفقة العاجزة من بعيد لا نفلح في فك حصار أو إيصال معونة، ونعجز قبل المشاركة هناك عن المشاركة حيث نحن، فلا نحرك ساحاتنا ولا نزعج القوى المساندة للعدو، حتى صارت ممارسة الشفقة تحللا من واجب النصرة الفعلية. إن إنذارات الحرب التي لا تنتهي توجع المتفرج فما بالك بمن يتلقى القنابل على صدره ولا يجد مخرجا. لقد حسبنا مكاسب كثيرة لغزة ولمن يتعاطف معها، لكن طول أمد المعركة يفرض حركة تفوق ممارسة الشفقة، فهل نستدرك؟
مصر التي على الورق
في المكاسب نجد فضيحة النظام المصري ونقول لقد تعرى العسكر إذ باع وخذل، وفي الخسائر نجد مائة مليون مصري خارج المعركة فنقول ظهر الأمة مكسور في مصر ولا سبيل أن يلتحق شعب مصر بالمعركة، ثم نتأمل فنجد أن خروج مصر الآن يعني خروجها إلى زمن طويل لاحق، فلا سبيل لإشراك الثقل المصري في معركة تحرير أمة.
يمكننا أن نعيد حساب الخسائر منذ اتفاقية كامب ديفيد لكن بعد معركة الطوفان نفقد الأمل في مصر، فمصر لا تمنع شعبها فحسب من المشاركة، بل تسد الطريق على كل عربي وعلى كل مواطن عالمي لا يمكنه النزول على غزة حتى ببرشوت. فلا يكون الأمل إلا في الفلسطيني وحده بإمكانياته الذاتية، وهذا يديم المعركة فالعدو يتسلح يوميا وسلاحه يتجدد والمال يتدفق حتى للمرتزقة إذا فقد الجنود.
معركة إنسانية أخزت العرب
في المكاسب نرى العالم يتحرك مع غزة ونقول صورة العدو تتهشم وسلطته على العالم تتراجع، وراية الفلسطيني تخرج من النسيان لتصير رمزا كونيا للحرية والمقاومة، لكن هذا لا يخفف على العرب أهل القضية إلا أن نقول إنها لم تعد معركة قومية بل تحولت إلى معركة الإنسان. وفي هذه أيضا يفرض سؤال نفسه: هل العربي موجود ضمن الإنسانية التي تقاوم؟
هذا منطلق جديد لتصورات جديدة لدور مختلف؛ الإنسان قبل العِرق (هذا إذا تجاوزنا مجاز الحديث عن العرق الموحد)، الإنسان هو الذي يحارب في غزة وهو الذي يطرح الأسئلة على العالم، وقد استجاب الإنسان في أماكن كثيرة وحدد موقعه لكن في المشهد الإنساني الشامل بحثنا عن العربي فلم نجده بعد.
غزة حررتنا من وهْم الأمة العربية، ولكن شعوب المنطقة وقد سقط عنها هذا الوهم لم تلتحق بالإنسان، فهي ماكثة خارج المعركة الآن لأنها ماكثة خارج الإنسانية، وهذا مؤلم وقاس لكنه حقيقي.
رابط الدين لم يكف للثورة، ورابط الهوية القومية لم يكف للنصرة، ورابط الإنسانية لم يثر على عجزه، فأقل الشعوب نصرة حتى بالشارع الأعزل هي الشعوب العربية والإسلامية. هل نتمنى أن تطول المعركة لعل أن تحدث معجزة؟ هذه أمنية مجرمة لأن ثمنها دم فلسطيني يصرف يوميا، ومن لم يثر في ثمانية أشهر لن يتحرك في بقية السنة من الحرب.
الآن معركة الإنسان أو الموت
لم يبق للعربي إلا أن يلتحق بالإنسانية ويدافع عن نفسه قبل أن يدافع عن غزة، وإنسانيته تبدأ في قطره من أجل حريته أولا، فلم يردنا عن غزة إلا أننا لسنا أحرارا في أقطارنا ونحن نكتشف عمق الاختراق الاحتلالي الذي نبذته غزة وثارت ولم نفعل فعلها في ساحاتنا ولو بأقل القليل منه. يمكننا أن نشكر غزة إذ علمتنا لكن الدرس لم يتحول إلى فعل.
تمر أمامي كل ذرائع الناكصين عن غزة وهي واهية في جملتها، فشاغل الخبز وسلامة الأولاد وتغيير السيارة القديمة ومصروف التصييف على البحر ومصروف المهرجانات لزوم التنفيس؛ أكبر علامة على شعب من السوائم المشغولة بكروشها فلا تواجه مصيرها بوجه مكشوف بل تعمد إلى حيل البقاء الذليل، فتهادن سلطة تقمع الحريات وهي أوهى من الصمود أمام شارع شجاع لمدة أسبوع.
نسيت أن أذكر بأن هناك من بيننا من يدمغنا يوميا بالسؤال: ونحن شو راحلنا بفلسطين؟ وعندما نقول له لقد فقدنا الإنسان فينا إذا خذلنا معركة حرية يحوّل إجابتنا إلى نكتة. حجم هؤلاء الذين يخذلون الشارع انكشف لنا بحجم محبط؛ نحن محتلون أيضا يا غزة ونحتاج معركة تحرير ونعرف أن كلفتها أقل مما دفعت، وهذه جملة قد ترضي غزة لكنها لا تحررنا.
قبل غزة وقبل نصرتها؛ الشارع العربي أو ما نسميه مجازا بذلك محتاج لأن يدافع عن إنسانيته وعن نفسه ويخرج من وضع السائمة، فكل يوم في الحرب هناك والصمت هنا هو عار وذلة لن تجد غزة وقتا لعلاجه (الي فيها مكفيها).
كلما طالت الحرب نكتشف الإنسان في العالم ونكتشف السائمة في بلاد العرب، ولن يكون لغزة الا الإنسان. فمن لم يلتحق بالمعركة حيث هو فليصمت خجلا وليتوارى، فالشفقة على غزة إهانة لدمها المقدس ولدروسها الإنسانية الباهرة. لتطل المعركة كما يخطط العدو حتى تكشف غزة الإنسان حيثما كان، وهذه أيام فاصلة بين الإنسان والحيوان. هل هذا هو القدر؟ إننا نتهجى إرادة الله في غزة، والحمد لله أن خلق غزة وكلفها بحرية الإنسان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق