حين تعوض السياسة فشل الحرب
جنود الاحتلال يوثّقون لحظة حرقهم ممتلكات المواطنين ودور العبادة خلال حرب الإبادة الجماعية على غزة
لا أخفي قلقًا من سيناريوهات ما بعد العدوان على غزة، رغم أنني أتمنى أن تطوى اليوم قبل الغد صفحة تلك الملحمة الفلسطينية التي أبهرت واستحقّت احترام وتعاطف الكثيرين. ذلك أن بعض سيناريوهات ما بعد الحرب تحاول بطرق شتى أن تحقق من خلال السياسة ما فشلت الحرب في بلوغه من أهداف.
صحيح أن الاحتيال والخديعة من خصائص الحركة الصهيونية منذ برزت في نهاية القرن التاسع عشر، التي بشّر بها ثيودور هرتزل آنذاك في كتابه الشهير: «الدولة اليهودية». إلا أن ذلك الأسلوب المخادع والمراوغ صار من لوازم كل خطوات تأسيس وبناء الدولة العبرية منذ 1948 مرورًا بكافة المساعي التي بذلت بدعوى تحقيق السلام، وكان من أبرزها المعاهدة التي أبرمها الرئيس أنور السادات مع إسرائيل في 1978، واتفاقيات أوسلو التي تمّت مع منظمة التحرير عام 1993، التي ندم ياسر عرفات على المضي فيها، معترفًا بأنها كانت خطأ وقع فيه.
لكني أزعم أن التاريخ الذي مرّ منذ تأسيس إسرائيل في كفة، والتاريخ الذي بدأ في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 في كفة أخرى مختلفة تمامًا، شكلًا وموضوعًا.
يسوغ لنا ذلك أن نقول إن ثمة فرقًا جوهريًا بين تجربة الاحتلال طوال 76 عامًا وبين ما حدث بعد «طوفان الأقصى»، وبعد نحو ثمانية أشهر من القتال، إذ أدركت إسرائيل أن المشروع الصهيوني يواجه خطرًا حقيقيًا يهدّد وجوده. وذلك ليس كلامي وحدي، لأنّ الإشارة إلى هذه الخلاصة وردت في كلام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في تعليقه على قرار محكمة العدل الدولية بوقف الحرب في رفح، إذ نقلت عنه وكالات الأنباء قوله: «من يطالب دولة إسرائيل بوقف الحرب فإنه يطالبها بإنهاء وجودها نفسها، وهو ما لن نوافق عليه».
وتلك رسالة ردّدها بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية وعضو الكنيست عن البيت اليهودي اليميني المتطرف، إذ تخلى الرجل عن الغرور والانتفاخ الكاذب وصرح بأنّ الاستجابة لقرار المحكمة الدولية تعد إيذانًا بنهاية المشروع الصهيوني. وليس ذلك فقط تعبيرًا عن فزعه من القرار، وإنما هو تعبير عن إدراكه لأصداء الزلزال الذي لاحظه في أعقاب عملية "طوفان الأقصى"، وأصدائها القوية التي ما زالت تتردد في أرجاء العالم حتى الآن.
لا غرابة في التشاؤم الذي عبّر عنه الوزير الإسرائيلي وهو ما لامسته من مقالة سابقة بعنوان: «أن تصبح إسرائيل تاريخًا»، أشرت فيها إلى علامات أفول المشروع الصهيوني بعدما انفضح أمرُه أمام العالم خلال حرب الإبادة على غزة، حين توالت شهادات الخبراء الإسرائيليين وغيرهم التي اعترفت بهزيمة الجيش الذي لا يقهر عسكريًا وأمنيًا واستخباراتيًا، إضافة إلى تدهور سمعتها الاقتصادية والأخلاقية وضلوعها في جرائم الإبادة، وغيرها من انتهاكات القانون الدوليّ، والقانون الدولي الإنساني.
وهي ذات التفاعلات التي دفعت ثلاث دول أوروبية: (إسبانيا، وأيرلندا والنرويج) إلى اعترافها بدولة فلسطين، الأمر الذي يساهم في عزلة إسرائيل دوليًا ويعزز تراجع الرأي العالمي إزاءها. في الوقت ذاته ارتفعت أسهم فلسطين: القضية والمقاومة والشعب الصامد والصابر. وكان للإدارة الأميركية نصيبها من الفضيحة بعدما انكشف أمام العالم حجم التواطؤ والتأييد الذي تقدمه إلى إسرائيل، لتتجاوز الشراكة بينهما إلى التبنّي والسعي المستمرّ لتمكين إسرائيل من مواصلة القتل والتهجير، والتستّر على جرائم الإبادة.
حين دخلت الحرب شهرها الثامن ظهرت عوامل جديدة في المشهد. إذ ثبت أن إسرائيل لم تحقق شيئًا من أهدافها الإستراتيجية. وظهرت الشقوق داخل مجتمعها، وتطوّرت مظاهرات أهالي الأسرى الذين ظلوا يطالبون بعقد هدنة مع حماس تطلق سراح أسراهم لديها، ثم أضافوا مؤخرًا مطالبات باستقالة الحكومة وانتخاب رئيس جديد لها. وفي هذه الأجواء ظهرت سيناريوهات ما بعد الحرب، خصوصًا ما رشح منها في الولايات المتحدة التي تقف في مربع الانحياز الصريح لإسرائيل.
التطوّر الآخر الهام؛ أن الدور الأميركي تراجع بصورة نسبية، فرغم أنها لا تزال القوة الكبرى والأعظم عسكريًا، فإن وزنها الإستراتيجي ضعف بدوره بصورة ملحوظة. آية ذلك أنها لم تستطعْ أن تكبح جماح المحاكم الدولية التي تمرّدت وأصدرت أحكامًا كشفت عن عدم رغبة المحافل القانونية الدولية للأمم المتحدة بالاستمرار في منح إسرائيل حصانة مفتوحة الأجل، ولم تستطعْ واشنطن بكل ما تملكه من نفوذ أن تمنعها من ذلك.
كما أنها عجزت عن ممارسة ضغوطها لمنع جنوب أفريقيا من اتهام إسرائيل بممارسة الإبادة بحق الفلسطينيين في غزة، فضلًا عن فشلها في أن تحول دون تمرّد بعض دول أميركا اللاتينية والتنديد بالعدوان الإسرائيلي، أحدثها إعلان المكسيك طلب الانضمام رسميًا إلى جنوب أفريقيا في الدعوى التي تنظر أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل بانتهاك المعاهدة الدولية لمنع الإبادة.
ومن مصادفات الأقدار أن الجسر العائم الذي قامت واشنطن ببنائه بتكلفة 320 مليون دولار بدعوى إدخال المساعدات إلى القطاع انهارت أجزاء منه بعد مضي أسبوع من تشغيله، مما كان تعبيرًا عن هشاشة الدور الأميركي، وركاكة التعامل مع معطيات الواقع الفلسطينيّ على الأرض.
من نماذج السيناريوهات التي أعنيها ما نشرته مجلة «بوليتيكو» الأميركية ذات السمعة الرصينة التي نسبت معلوماتها إلى أربعة مسؤولين في إدارة الرئيس بايدن. وهناك أفكار أخرى قريبة تحدّث عنها تقرير لمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى المؤيد للسياسات الإسرائيلية، ومقترحات ثالثة أعدّتها جماعة بحثية تسمى تحالف فاندنبرج الذي يتكوّن بدوره من عدد من مؤيدي إسرائيل.
ربما كان كافيًا لاستبعاد أمثال تلك الأطروحات بسرعة أن ندرك أنها خارجة من المطبخ الأميركي الذي هو بمثابة الشريك والكفيل للدولة الإسرائيلية، وذلك لا يمنع من إبداء عدة الملاحظات الأخرى التي تنبّه إلى بعض العوامل المثيرة للقلق.
ذلك أن أغلب الأفكار المطروحة تحرص على التمكين الإسرائيلي وضمان سيطرتها على الأوضاع الأمنية بدعوى الحيلولة دون تكرار ما حدث في السابع من أكتوبر/تشرين الأول. ولتحقيق ذلك يسمح بعودة أعداد من الفلسطينيين بشروط معينة. ويتوازى ذلك مع تنشيط عملية الإعمار واستمرار التمويل. ويشرف على الإدارة المدنية مستشار أميركي له مقر خارج غزة. إذ يقترح له أن يقيم في منطقة قريبة في سيناء أو عمّان، فريقه فقط هو الذي سيبقى داخل القطاع. أما الأمن والاستقرار فتتولاه قوة أممية تشترك فيها قوات تمثل ثلاث دول عربية «حليفة»، هي: مصر والمغرب والإمارات. وتضم إلى هذه القوة بعض عناصر سلطة التنسيق الأمني في رام الله.
وهذه النقطة الأخيرة لها خطورتها؛ لأنها بمثابة توريط غير مسبوق للدول العربية الحليفة في مهمة التنسيق الأمني سيئ السمعة، وهو ما يفتح الباب لاشتباك هذه القوة مع عناصر المقاومة الفلسطينية، على نحو يفتح الباب لاحتمال نشوب حرب عربية – عربية.
إزاء ذلك خطر لي شبح اتفاق أوسلو الذي أخذت فيه الدولة العبرية الكثير من المنظمة، وخرج الفلسطينيون بالسلطة الوطنية وبوعد الحكم الذاتي الذي يمهد للدولة المستقلة والذي لم يتحقق منه شيء طوال أكثر من 30 عامًا. وبذلك حقّقت إسرائيل مرادها وأكل الفلسطينيون الهواء.
وهو ما ينبهنا إلى تحديات اللحظة الراهنة التي تؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن "طوفان الأقصى" كان ولا يزال هو الحلّ. ليس اليوم فقط، ولكن غدًا أيضًا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق